قوة الحق أم حق القوة: الکورد بين المبادئ وصراعات الواقع
٨ فبراير ٢٠٢٥
618
لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط ساحة للصراعات السياسية والاقتصادية والأمنية، حيث عانت شعوبها من تداعيات هذه النزاعات التي غالبًا ما تحكمها "قوانين القوة" بدلاً من "قوة القوانين". في هذا السياق، استخدم الأمير حسن بن طلال في إحدى مقابلاته التلفزيونية عبارة "قوة الحق أم حق القوة" لوصف الوضع في الشرق الأوسط، وهي عبارة تعكس بعمق واقع القضية الكوردية، التي ظلت لعقود طويلة بين مطرقة الأنظمة القمعية وسندان الصراعات الداخلية. فما الذي يمكن أن يتعلمه الكورد من هذا التناقض بين "قوة الحق" و"حق القوة"؟ وكيف يمكنهم توظيف هذه المبادئ في نضالهم من أجل مستقبل أفضل؟
الکورد و"قوة الحق": نضال مشروع يتجاوز الجغرافيا"
يشير مفهوم "قوة الحق" إلى الإيمان بأن العدالة والحقيقة تحملان قوة ذاتية للتغيير، حتى في مواجهة التحديات والعقبات. تستمد هذه القوة مشروعيتها من المصداقية والأخلاق، ومن القدرة على إقناع الآخرين بالحجة والمنطق. هذه القوة لا تعتمد على العنف أو الإكراه، بل على الحقائق والمبادئ الراسخة. يستند النضال الكوردي، منذ بدايات القرن العشرين، إلى مبدأ "قوة الحق"، حيث سعت الحركات الكوردية إلى الاعتراف بحقوقها القومية والثقافية والسياسية.
أمثلة حية على قوة الحق تتجلى في نضال نيلسون مانديلا ضد نظام الفصل العنصري، حيث قاد شعبه نحو الحرية رغم سنوات السجن والمعاناة، منتصرًا بالعدالة على قوى الظلم. وقد جسد هذا المبدأ في تعامله مع القضية الفلسطينية والکوردية في ترکيا. ومثال آخر هو إسماعيل بشيكجي، عالم الاجتماع التركي، الذي دافع عن حقوق الكرد في تركيا رغم السجن والتضييق، مجسدًا بذلك التزامًا أخلاقيًا نابعًا من الإيمان بعدالة المطالب الکوردية.
مفهوم "حق القوة"
على النقيض، يرتكز "حق القوة" على فكرة أن القوة المادية — عسكرية كانت أو اقتصادية أو سياسية — تمنح الشرعية للهيمنة والسيطرة. هذا المبدأ يبرر استخدام القوة لفرض الإرادة، حتى إن تعارضت مع مبادئ العدالة. في الشرق الأوسط، تجلت "حق القوة" في الاستعمار الذي استغل موارد الشعوب، وفي الأنظمة الديكتاتورية التي قمعت حريات شعوبها، وفي تدخلات القوى الكبرى التي فرضت هيمنتها على الدول الضعيفة.
عانى الكورد، كغيرهم من شعوب المنطقة، من نتائج "حق القوة"؛ قُسموا بين دول متعددة (اتفاقية سايکس بيکو 1916) مرورا بحملة الانفال (1987-1989)، وانتهاءً بسياسات التهجير القسري في مناطق متعددة، كان "حق القوة" هو السلاح الذي استخدمته الأنظمة ضدهم.
لكن المشهد الكردي نفسه ليس بعيدًا عن تعقيدات "حق القوة"، إذ شهد انقسامات داخلية بين الأحزاب والجماعات، حيث سعت بعض الأطراف لفرض سيطرتها بوسائل القوة، متجاهلة مبدأ الوحدة على أساس العدل. في الوقت الذي ناضل فيه الكورد ضد أنظمة استبدادية، تحوّلت بعض القوى الكوردية إلى تبني ذات الممارسات التي عانوا منها، عبر فرض سياسات قمعية واحتكار السلطة، بل والتورط في تحالفات مع قوى استعمارية، مما أضعف موقفهم الأخلاقي أمام المجتمع الدولي. فكيف يمكن للكورد أن يدافعوا عن حقوقهم وفق "قوة الحق"، بينما يمارس بعضهم "حق القوة" داخليًا؟
نحو مستقبل مشرق عبر "قوة الحق"
رغم الأخطاء الاستراتيجية التي وقعت فيها بعض القيادات الكوردية في الماضي، الا أن الوقت قد حان لتصحيح المسار. يكمن الحل في التمسك بالمبادئ الأخلاقية في المطالبة بالحقوق، والدفاع عن المظلومين، ورفض الفساد والظلم، والعمل بشجاعة لتحقيق العدالة. أي لا بد للکورد من تبني استراتيجية قائمة على "قوة الحق" وليس "حق القوة"، لأن الشرعية الأخلاقية والسياسية أكثر استدامة من أي مكسب مؤقت يتحقق بالقوة. يمکن تحقيق ذلک من خلال:
- الوحدة الداخلية بدلًا من الانقسامات: لا يمكن لأي حركة تحررية أن تنجح دون وحدة صفوفها، والدرس الأكبر الذي يمكن تعلمه من التجارب التاريخية هو أن الكورد لن يحققوا مكاسب دائمة ما داموا متنازعين فيما بينهم.
- تعزيز الشرعية السياسية عبر المؤسسات: على الكورد أن يسعوا لبناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية، قائمة على العدالة والمشاركة الشعبية، بدلًا من بناء أنظمة تحكمها المصالح الضيقة.
- تعزيز التحالفات الدولية عبر المبادئ، لا المصالح العابرة: يمكن للكورد كسب الدعم الدولي من خلال تقديم أنفسهم كنموذج للاستقرار والتعددية والديمقراطية، وليس فقط كقوة عسكرية في معادلات الصراع الإقليمي.
- رفض الاستبداد أينما كان: لا يمكن للكرد أن ينادوا بالعدالة لأنفسهم بينما يدعمون أنظمة استعمارية أو استبدادية في أماكن أخرى، فالمبادئ لا يمكن تجزئتها.
تحقيق العدالة قد يكون طريقًا طويلًا، لكنه يستحق الجهد والصبر. "قوة الحق" ليست مجرد شعار، بل هي رؤية وإستراتيجية قادرة على إحداث تغيير حقيقي في كوردستان، وبناء مجتمع أكثر استقرارًا وعدالة، وكسب احترام العالم.
الخاتمة
الصراع بين "قوة الحق" و"حق القوة" ليس مجرد جدل فلسفي، بل هو جوهر القضية الكوردية منذ زمن طويل. في كل مرة اختار فيها الكورد "قوة الحق"، اكتسبوا تعاطفًا ودعمًا دوليًا، وعندما وقعوا في فخ "حق القوة"، فقدوا الكثير من مكاسبهم. إن بناء كوردستان قوية ومستقرة لا يتحقق عبر الهيمنة والاقتتال والمنافسة الداخلية، بل من خلال إعلاء مبادئ العدل والحرية، وتعزيز روح الوحدة والتعاون، لأن القوة الحقيقية لا تكمن في السلاح أو السلطة، بل في عدالة القضية والمصداقية في الدفاع عنها.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم للكورد اليوم: هل نريد أن ننتصر بقوة الحق، أم نكرر أخطاء الماضي ونسقط في فخ حق القوة؟