عام 2003، وقفت مع النائبة البريطانية السابقة آن كلويد في مقبرة جماعية بالقرب من بغداد، المكان الذي سُرقت فيه ارواح الآلاف من الابرياء على يد النظام البائد للطاغية صدام حسين، ومن بين الجرائم صورة واحدة بقيت معلقة في ذاكرتي، شعر لطفلة، كان قد تم ربطه بشريط أحمر ومغطى بالطين. كانت هذه المقبرة بالقرب من منطقة المحاويل، والتي تعتبر واحدة من أكبر المقابر الجماعية في المنطقة، منذ سقوط نظام صدام، حيث تم العثور على رفات أكثر من 15 الف ضحية في تلك القبرة. 
كان فتح المقبرة الجماعية بمثابة تذكير بالفظائع التي حدثت في العراق وحزن ذوي ضحايا الأنفال الذين كانوا يبحثون عن أخبار مؤنفليهم.
بعد عقدين من الزمن، وجدت نفسي مرة أخرى في صحراء تل الشيخية في محافظة المثنى جنوب العراق، امام مقبرة جماعية تضم رفات اكثر من 100 امرأة وطفل من الاكراد المؤنفلين. وعلى بعد أمتار قليلة تم اكتشاف ثلاث مقابر جماعية أخرى وتحديدها على أنها ربما تكون لضحايا عملية الانفال ايضا، وبهذا يكون هذا الموقع هو واحد من اكبر مناطق المقابر الجماعية، ان هذا الاكتشاف دليلا على وحشية حملات الإبادة الجماعية التي شنها النظام البائد، ودعوة لتكريم واحترام عائلات الشهداء وتضحياتهم. 
تُظهر الفحوصات الجنائية الأولية للمقابر الجماعية عن صور مروعة للحظات الأخيرة من حياة الضحايا. وتشير الأدلة إلى أن الضحايا تعرضوا لإطلاق النار من الجانبين ومن الأعلى، وتبين لنا بقايا الرُفات أن الكبار قد بذلوا جهوداً يائسة بأجسادهم لحماية الأطفال من الرصاص.
إن عملية الأنفال هي واحدة من أحلك فترات التاريخ الحديث، حيث تشير المصادر إلى اعتقال 182 ألف كردي وآشوري وشبكي وتركماني وشيعي، وتدمير 4500 قرية، وفي غضون أشهر قليلة من عام 1988، شَنَ النظام البعثي حملة إبادة جماعية ضد الأكراد العراقيين بحجة اخماد ثورة المتمردين. الذين تم تهجيرهم وقتلهم، واليوم أصوات الضحايا تطالب بالاعتراف والعدالة، لكن الطريق إلى العدالة ليس سريعاً وسهلاً. فمنذ عام 2019، لم يتم فتح سوى مقبرتين جماعيتين كبيرتين، وهناك عدد لا يحصى من الضحايا لايزالون تحت الأرض. 
إن عملية اختبار الحمض النووي وتحديد هويته ومطابقته هي عملية مفصلة ومعقدة وتتطلب خبرة دقيقة وجهدًا لا يعرف الكلل، لأول مرة سيتم التعرف على هوية ضحايا الأنفال بجهود الفريق الوطني المختص المتمثل بدائرة المقابر الجماعية في مؤسسة الشهداء ودائرة الطب العدلي في وزارة الصحة بالتعاون مع اللجنة الدولية لشؤون المفقودين وعدد من الخبراء، ويشرف مكتبنا على العملية بشكل مباشر. حتى الآن تم جمع 1200 عينة دم من ذوي ضحايا الأنفال في كلار وجمجمال وكوية، من مجموع 1600 عائلة سجلت في العملية.
رغم هذه التحديات، فإن أولويتنا هي إعادة الرفات إلى عائلاتهم ودفنهم وتكريمهم بمراسم تليق بتضحياتهم، ومعرفة أن ضحايا الحرية لم ولن يُنسوا.
العراق ليس وحده في هذه القضية المروعة، فقد تم اكتشاف مقبرة جماعية مؤخرا بالقرب من دمشق في سوريا، تحتوي على رفات الآلاف من ضحايا نظام بشار الأسد، وكما هو الحال في العراق، تكافح سوريا الآن لتحديد هويات الضحايا، والبحث عن الأدلة، وتحقيق العدالة لذويهم.

ولكن هذه المهمة لاتخلو من العقبات، فقد أعاقت الاوضاع السياسية تقدم العراق، ولكن وكما وعدت أسر الضحايا، فإننا سنستمر في بذل الجهود، لايزال الطريق امامنا طويل. وعلينا الحفاظ على هذه الأماكن لتكون شاهداً وتحذيراً للأجيال القادمة من عواقب الظلم والقمع.
لقد تركت مذبحة الأنفال دروساً وعبراً تتردد أصداؤها خارج العراق. فالمقابر الجماعية انعكاساً لمعاناة الشعوب التي تعاني العنف والقمع والتي حولت الأنظمة الاستبدادية أراضيها إلى مقابر صامتة.
مسؤوليتنا المشتركة هي حفظ هذا التاريخ ومواصلة العمل على منع تكرار هذه الفظائع.
عندما وقفت في صحراء تل الشيخية، شعرت بآلام الضحايا وما عانوه. ان عائلاتهم تستحق ماهو اكثر من التعاطف انهم يستحقون العمل الجاد والفعلي فهذا العمل لايتعلق بالماضي فحسب، بل بالمستقبل أيضا.
كل من كان ضحية لهذه المقابر الجماعية هو دليل على ثمن الصمت والتقاعس، علينا أن نروي قصصهم وأن نخلد تضحياتهم إلى الأبد في ضمير الإنسانية، سنحافظ معاً على هذه الذكرى ونحقق العدالة ونبني مستقبلا لا يتشبث فيه الأبناء بأمهاتهم خوفا.
المصدر: مجلة نيوزويك